استراتيجية التاريخ واشكاليات المجتمع المعاصر
الاستاذ الدكتور صباح مهدي رميض / العراق
لاشك ان التاريخ يشكل بعدا اساسيا من ابعاد الوجود البشري ، فوجود الانسان ليس بوصفه شخصا فقط ولا بعلاقاته التفاعلية مع غيره ايضا ، بل وجوده وجود تاريخي مرتبط بثنائية الزمان والمكان ، ومن هنا تتخاطر اسئلة تتعلق باستراتيجية التعامل مع التاريخ ، منها متى تكون معرفتنا بالتاريخ معرفة موضوعية ؟ وهل تفيدنا هذه المعرفة في الكشف عن منطق التاريخ وصيرورته ؟ وكيف نقيّم مسيرة الانسان في صنع الاحداث والوقائع في حقب التاريخ المتعددة ؟
ولغرض الاجابة على كل هذه التساؤلات لابد من فهم التاريخ والتعاطي مع استراتيجيته المتفاعلة ، وتوظيف المنهج الاشكالي في دراسته بوصفه منظومة تنتج داخل فكر معين ، وهو في طور الاعداد والنضوج ، الهدف منه وضع حلول ومعالجات لمشكلات المجتمع ، ومن ثم معرفة المقاربات الاقتصادية والسايكولوجية والسيوسيولوجية والاركولوجية ، وتوظيفها في دراسات التاريخ المتعددة بعد تشخيص المشكلة ، وهذا الامر يلزم العودة الى اعماق التاريخ والبحث عن وقائع متشابهة ، وهنا يتفق العديد من مفكري التاريخ على ان المشكلات القائمة لابد ان تكون لها جذور في الماضي ، اذ ان الشريط الرابط بين المشكلة القائمة وخلفياتها يفتح نوافذ ويسارع في وضع الحلول والمعالجات المطلوبة .
وفي ضوء ماتم عرضه بشأن منهج الاشكالية في التاريخ ، يلزم اعادة النظر في المنهج الوصفي السردي الذي تصدر مناهج دراسات التاريخ في العقود الاربعة الاخيرة ، وفي الوقت ذاته يلزم التفكير في وضع بناء معرفي جديد لموضوعات التاريخ قائم على تحديد المشكلة وصياغة الفرضيات وبيان الرؤى والاهداف والمعالجات وتطبيق الطريقة التاريخية Historical methed في اتجاهها الموضوعي الفاعل . ونبتعد عن تلك المقدمات الكلاسيكية الرتيبة المعروفة بالوصف والانشاء الذي يبعث الملل وشرود الذهن لدى القارئ .
اجمعت معظم الدراسات الابستمولوجية على ان اهم خطوة يقوم بها المؤرخ هي الانطلاق في حدود مساحة المشكلة التي هو بصدد دراستها من البداية حتى النهاية ، وهنا يظهر مفهوم (التاريخ الجديد) ، الذي يقود بدوره الى مفهوم آخر هو (جديد التاريخ) ، وبذلك تصبح الثنائية قائمة على (التاريخ الجديد وجديد التاريخ) ، فهو اعادة بناء الماضي البشري على وفق رؤى وتصورات جديدة ، لذلك فان الثابت عند كل المؤرخين المحدثين عن الماضي المدرك وهو دائم بصيغته الاشكالية ، والذي يثير تساؤلات حول مشكلة حاضرة . ثم تأتي بعدها عمليات الفحص وتدقيق سجلات الماضي ووثائقه وارشيفاته وموارده على وفق خيال منبعث باتجاه الماضي .
وجدير بالاشارة الى ان المؤرخ يجب ان يضع في حساباته ان حقائق الماضي ليست حقائق مطلقة بل هي نسبية ، لذا فان الواقعة التاريخية قد تكتب عدة مرات وعلى اوجه مختلفة ، لذا فهو بدونها يعتمد على وفق المتيسر من المصادر لديه ، مع توظيف امكاناته وقدراته في تحليل الاسباب والنتائج .
لذا فأن روحية الكتابة التاريخية على وفق ماتم عرضه ستكون متجددة ومستمرة ومرتبطة بالتاكيد بتجديد مشكلات الانسان في زمنه الحاضر ، وهي كثيرة ومقلقة الى حد كبير ، لذا فالانسان لايعيش حاضره مفصولا عن ماضه ، فيجب ان لايكون تفكيره في تاريخيه بوصفه زمنا غابرا مضى مليئا بالاحداث والوقائع فحسب، بل عليه فهم كيفية التأسيس لبناء منظومة الحلول والمعالجات بعد استنفار ماتخزنه الذاكرة الانسانية في الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل وهذه هي صيرورة التاريخ .
ان الانطلاق من استراتيجية فهم اشكالية التاريخ ستمكن المؤرخين من التحرر من سطوة الانماط التعليلية الجاهزة اولا ، والاحكام الفكرية المسبقة ثانيا، ومن ثم فتح الابواب مشرعة في البحث والتقصي عن الحقائق ، وعند ذاك نكون قد وضعنا اللبنات الحقيقية في تأسيس مدرسة تاريخية عراقية لها خصوصياتها وصفاتها المميزة.